السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الذراع المبتورة "قصة قصيرة"
قصة أحداثها حقيقية ((وقعت في زوارة))
قهوة الصباح التي انفق في أعدادها حصيلة من الذكريات المهترئه و التأملات المبهمة امتصت جميع الألوان وكانت علقماً مريراً ، انطلق مع أنفاس الفجر الرطيبة يرتدي قميصاً ممزقاً يكشف عن صدره وكتفيه ، وينتعل حذاء مهترئاً كان يسقط من قدميه بين وقت و آخر فيتوقف لكي ينتعله من جديد ، وهو يمضي مبتعداً عن منزلهِ الواقع في عمقِ المدينة و يحمل بين جوانحه اهتياجاً مسعوراً كان يتعاظم أحياناً فيدوس على ضميرهِ في خشونة لاذعة .
سحب كسولة تعشت في البحر ثم رفعت ألويتها البيضاء و أخذت تزحف نحو سماء المدينة ، نسيم البحر الرقيق ينساب متسللاً بين المباني العتيقة. اجتاز تلك الأسوار التي تفصل مدينته عن شاطئ البحر، الأسوار التي طالما تسلقها مع أطفال الحارة في مثل هذه الأوقات من السنة عندما يحل فصل الخريف وهم يردِّدُون عبارات يحثون بها الأمطار لكي تهطل بسرعة أكبر و بغزارة أشد .. لم يفارقه الآسى وهو يسلك دهليزاً ضيقاً بل جعل طموحاته تتبدَّد و تغوص في الأعماق, وأدرك أن المرارة التي استقرت في قلبه سوف لن يشفيه منها إلا مرور الزمن وتعاقب الأيام .
سار بمحاذاة الشاطئ و قد أطلق لخياله العنان لكي يحوم فوق المياه الزرقاء ، وهو يعلم علم اليقين أن في مثل هذه الأوقات من السنة تكثر أسراب اسماك البوري المسافرة لتضع بيضها هناك في أقصى الشرق ، فهي إذن فرصة سانحة لكي يصطاد منها الكثير ثم يقوم ببيعه في سوق المدينة و يشتري بثمنه ما يلزم لأطفاله من مأكل و ملبس . ظلال السنين المتكاثفة تتزاحم في الأفق أمام عينيه و تجعل هذا الصباح في مخيلته حافلا بالضياع فهو لم ينعم بالهدوء و الطمأنينة منذ نعومة أظافره ، فالاستعمار القديم سلم البلاد للاستعمار الجديد و لا خير في الاستعمار مهما كان نوعه . السنوات تتشابه و البحر لم يتغير ، هذا العملاق الجبّار الذي راوده منذ الطفولة و الذي كان يحنو احيانا حنين الام و في بعض الأحيان كان يقسو ويركل الساحل بأمواجه العاتية ، أبوه كان صياداً ايضا لقد كان يجالسه عندما كان يقوم بإعداد "البارود" ليجعل منه هذه القنبلة اليدوية لصيد الأسماك ، كان أبوه ماهرا في هذه المهنة فهو لم يفقد الا إبهام يده اليمنى في الوقت الذي بعض أصدقائه فقدوا حياتهم .. فقد كان يقوم بإعداد عبوة الديناميت بعناية فائقة فهو يحرص على أن يكون الفتيل بطول مناسب، كما انه كان يربط مع كل فتيل عودا من الثقاب لكي يسهل إشعاله عند الحاجه ، ولكنه تذكر كيف كانت جدته تنهر والده طالبة منه أن يترك مهنة صيد السمك بالمتفجرات ، كانت تقول له : "سوف تبقى دوما تجري و لا تدري" .
عبثا حاول أن يتخلص من هذه الأفكار المتشابكة و هو يتحسس أصابع الديناميت في جيبه الأيسر و علبة الثقاب في جيبه الأيمن حتى لا يختلط عنده الأمر ويضعهما في جيب واحد فتكون الكارثة . البحر يبدو هادئا هذا اليوم وها هي السحب تغادر أمام رياح الشمال مبتعدة عن الشاطئ وتفسح المجال لضوء الشمس و هو ينسكب في مياه البحر و يجعل رؤية الأسماك تحت الماء أمراً يسيراً. جلس على صخرة تعلو قليلاً عن سطح البحر و اخذ يتطلع الى المياه الزرقاء وقد اتسع عنده مجال الرؤية الأفقية و هذا يساعده على رؤية الأسماك بشكل أوضح ... إن الأزهار سوف تتفتح ولن تظل دوما مغلقة و إذا ذبلت أزهار هذا الربيع فان غيرها سوف يتفتح في الربيع القادم ، وان مياه الأنهار لن تظل دوما ضحلة بل سوف تدب فيها الحركة بقدوم الشتاء و نزول الأمطار.
الأمواج الهادئة تداعب قدميه، ورأسه يزداد تطلعا الى البحر، ظلال النوارس كانت تمر بالقرب منه بين حين و أخر فكان يرفع رأسه الى أعلى لملاحقتها بنظراته حتي تختقي و تذوب في الأفق فيعود مرة أخرى ليصوب نظراته نحو المياه الزرقاء . سرب هائل من أسماك البوري قادمة من جهة الغرب تتراقص تحت سطح الماء متقاربة احيانا متباعدة أحيانا أخرى، انزلق من فوق الصخرة الى الماء بحذر شديد حتى لا يخيف سرب الأسماك و مشى حتى وصل الماء إلى ركبتيه ، انحنى قليلا وسحب عبوة الديناميت و جعلها في يده اليمنى و علبة الثقاب في يده اليسرى وهو يتطلع إلى الأسماك منتظرا اللحظة التي تقترب فيها من بعضها بصورة أفضل، قرب العلبة من الفتيل و اشعل عود الثقاب ثم رفع يده إلى أعلى استعدادا لرمي عبوة الديناميت وسط سرب الأسماك .. انفجار عنيف يهز الأرض حوله .. جسمه يترنح بشدة ويفقد شيئا ما .. ذراعه اليمنى تسقط على بعد أمتار قليلة.
الكاتب : د.عبد العزيز بندق
إن شاء الله تنال اعاجابكم
و السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق