دعاية

الاثنين، 29 ديسمبر 2008

@! مــن أجــل فــتـــاة !@

مــن أجــل فــتـــاة
كان ينظر إليها وهى تملأ جرتها بالماء من تلك البئر الغائرة في أرض منبسطة خلف أشجار الزيتون على بعد أمتار قليلة من الطريق الترابي الذي يفصل مزرعة أبيها عن تلك الرقعة من الأرض السبخة, حيث يقبع كوخ احد رجال البدو الذي استعاض به عن خيمة الشعر التي كان يتنقل بها, فقد قرر أن يستقر في هذه البقعة من الأرض, وقام حديثا ببناء هذا الكوخ استعداداً لاستصلاح تلك الأرض البور والتي بدأ فيها العمل على قدم وساق منذ أيام قليلة من إزالة للأعشاب المالحة إلى قلبها بواسطة المحاريث ونقل الرمال إليها من المنحدر المتاخم لها.كانت الشمس تقطع النصف الثاني من رحلة ذلك اليوم من أيام الصيف الحارة من تلك السنة التي بدأت تلوح فيها بوادر نهاية الحرب وبالتالي فإن علامات البهجة بدأت تظهر على وجوه الناس الذين عانوا كثيراً من ويلاتها, فقد عادوا إلى ديارهم بعد أن كانوا قد هجروها لفترة طويلة من الزمن فراراً من مدافع الأعداء التي لا ترحم ولا تميز بين عسكري ومدني ،وشرعوا في استصلاح أراضيهم ترقبا لمستقبل أفضل .كان مختبئاً خلف جدع شجرة زيتون وقد أرسل نظراته الثاقبة من بين الأغصان لتستقر على وجهها الوضاء تارة وعلى شعرها الأسود تارة أخرى وربما أطلق لخياله العنان كي يقترب منها ويحوم حولها ثم يعود إليه هزيلاً بائساً .كانت درجة الثقافة عنده تساوي صفراً فهو واحد من بضع مئات من الشباب الذين تم تجنيدهم وانخراطهم عنوة في قوات الحلفاء بعد احتلال بلدانهم من قبل الأوربيين, وقد تم إحضارهم إلى شمال أفريقيا لكي يحاربوا جنباً الى جنب مع هذه القوات .لم يتردد طويلاً في اللحاق بها بعد أن ملأت جرتها بالماء وبدأت تطلق خطواتها الأولى في مشوار العودة إلى بيت أبيها الذي كان خاليا إلاّ من والدتها التي تقدم بها العمر , كانت مفاتنها جذابة بشكل لا يقاوم , فقد كانت ناضرة العود بهية الطلعة , جميلة الوجه لها شعر أسود يتدلى خلفها و ينسدل على كتفيها , سارت تتهادى سالكة طريقاً ترابيا ضيقاً تفاديا للسير فوق الأرض الهشة المحروثة حديثا وكذلك تفاديا للمرور فوق فروع أشجار الكروم الزاحفة في جميع الاتجاهات , كانت تنصت الى شقشقة الطيور الغارقة بين أوراق أشجار السرو الباسقة , بينما النسيم القادم من البحر يحرك أوراق الأشجار في خفوت وهمس , قلبها هو الأخر يرسل نبضات في خفوت وهمس أما قلبه هو فقد كان يعتصر داخل صدره ويضطرب اضطراباً سريعاً, وكان يكمن في نبضاته المتزاحمة أمر لم يختمر بعد فهو وليد تلك اللحظات فقد دكّ عقله فجأة وجعله يخطو نحوها دون سابق إصرار, وربما انعدم في وجدانه كل إحساس بشري فقد اخذ يدنو نحوها غير مبال بعاقبة ما كان يصبو إليه ولا مكترث لما قد يحدث بعد ذلك , فهو الذي تم إبعاده عن أهله ووطنه عنوة وكابد العذاب والحرمان , وربما كان يؤمن في قرارة نفسه أن مهنة القتل التي فرضت عليه من قبل السادة وجعلته يتجرع البؤس وبعثت في نفسه الشعور بالإحباط في وسط ظروف عسيرة كتبت عليه أن يعيشها في خضم حياة لا أمان فيها , فإن هذه المهنة كفيلة بأن تجعله يغتنم من خلالها ما كان يراه حقا له منحته له الطبيعة, بعيداً كل البعد عن جميع الشرائع والأعراف الاجتماعية التي استطاع الإنسان إن يتميز بها عن غيره من الكائنات الحية, أو ربما تبّين له أن شاطئاً جميلا لاح له من خلف أمواج القلق الثائرة وقد صار أمامه واقعا ملموساً, بإمكانه أن يحط عليه رحاله لكي ينعم ولو قليلاً برقة نسيمة وصفاء سمائه وبهاء شمسه , ثم يتصدى بعد ذلك لأي رياح معاكسه تهب ربما من اليابسة . اخذ يسرع في خطواته لدرجة ربما أزعجت الطيور التي بدورها خرجت من بين أوراق الأشجار وتسلقت رياح الظهيرة نحو السماء , في تلك اللحظات أدركت الفتاة ولأول مرة أن شخصاً ما يسعى إلى اللحاق بها والنيل منها, عندها رمت بجرة الماء فوق الرمال وأسرعت نحو كوخ جارها الجديد القابع على بعد أمتار قليلة لكي تحتمي بمن فيه , وقد تعالى صراخها طالبة النجدة, لم يكترث الجندي لهذا كله بل هرول مسرعا يريد اللحاق بها, وعند باب الكوخ التقى الرجلان و حدق كل منهما في وجه الآخر , وفي الحال أدرك كل منهما اختلاف اللغة التي يتكلمان بها , وربما أدركا معاً أنه لم تعد هناك حاجة إلى لغة للحوار , فالأمر كان واضحاً والموقف صاخباً , فالجندي يمسك بمسدسه مصوباً فوهته نحو الرجل الواقف أمامه وهو يشير إلى الفتاة طالباً الحصول عليها , الفتاة ترتعد من شدة الخوف وهي تقف خلف الرجل تحتمي به , لم يتمالك البدوي نفسه أمام هذا الخطب الكبير , وربما قرر إنقاذ هذه الفتاة ولو أدى ذلك إلى التضحية بحياته , فانقض على الجندي بكل ما أوتي من خفة وما يملك من قوة محاولاً إسقاط المسدس من يده وطرحه أرضاً , يتشابك الرجلان في معركة غير متكافئة ويسقطان على الأرض معاً , صوت عيارات نارية تصم الآذان,رصاصات تتطاير هنا وهناك ليستقر بعضها في صدر البدوي , دماء غزيرة تتدفق منه لتروي عتبة الكوخ وساحته .

الكاتب : د.عبد العزيز بندق
حقوق النشر محفوظة لـ زوارة نت
إن شاء الله تنال إعجابكم
مع أطيب التحيات

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق